طشّاري > مراجعات رواية طشّاري > مراجعة أحمد فؤاد

طشّاري - إنعام كجه جي
تحميل الكتاب

طشّاري

تأليف (تأليف) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

مع كُل رواية تلامس قلب قارئها؛ يبرز السؤال الذي يطارده دائمًا بلا إجابة - لماذا تأثّرت بهذه الرواية إلى هذا الحَد؟

نجتهد -كقُرّاء- في محاولة إيجاد إجابة لهذا التساؤل، فنسترجع أحداث الرواية في عقولنا، نبحث عن وصف مُبهج أو تصوير موجع. أو عن شخصية جذابة؛ خيّرة كانت أو شريرة. أو عن لغة ساحرة أو سرد رائع. لكن اجتهادنا الحثيث لا يمنحنا إجابة نهائية. فنخترع تأويلات للنصوص، ونختلق أعذارًا للشخصيات، ونبتكر مدلولات أخرى للمعاني! وكأنه مطلوب مِنّا أن نجد سبًبا للحب!

هكذا كانت تجربتي مع رواية "طِشّاري" كُلّما حاولت الكتابة عن سبب إعجابي الشديد بهذه الرواية، أجدني أعجز عن إيجاد سبب مُقنع. ليس هناك أحداثًا مُبهرة، ولا أوصافًا مُدهشة، ولا شخصيات استثنائية. إنها رواية عادية. وشخصياتها مألوفة وكأنني أعرفها من قبل! رُبما كان أعظم ما في هذه الرواية هي عاديّتها!

لقراءة المراجعة بشكل مُنسّق مُطعّم بالصوّر اضغط على الرابط التالي

****

جاءت الرواية هادئة الأحداث، عذبة السرد، فاتنة الصُحبة. تمامًا مثل شخصيتها الرئيسة وبطلة حكايتها "ورديّة إسكندر"، تلك الشخصية الرقيقة التي نرى من خلالها العراق وتحوّلاته السياسية والاجتماعية، والتي وعلى الرغم من عدم فعاليتها في الأحداث من حولها إلا أنها تستمر بطاقة الحُب التي تشعّ من جسدها النحيل ذي الروح الأخّاذة.

ومن الموصل إلى بغداد إلى الديوانيّة إلى باريس وكندا والكاريبي، تأخذنا وردية معها في رحلتها الطويلة التي تبدأها مع مجتمعٍ مُتعدّد متلاحم بلُحمة الأُلفة وترابط القُرب وانسجام العيش، وتبقى حتى العقد الثامن من عمرها -رغم كل شيء- في العراق لا تريد أن تتسرّب منه. لكنها مُرغمة تترك العِراق في النهاية وتلحق بأرض المنافي، تاركة وراءها مُجتمع مُتشظّي ومُتَشَيّطِن أهله، غارقًا في وحل صراع طائفي يُدمّر كل جميل في ذاكرة العراق.

ورديّة... حلم الأهل الطازج بأن تُمثّلهم ابنتهم خير تمثيل في مُجتمع لا يؤمن بتعليم أو قدرات الإناث، تشقّ طريقها بكل هدوء رغم توجسّاتها في رحلة لإثبات ذاتها. ورغم أن أحلامها كانت غاية في البساطة والوضوح إلا أننا نشهد معها كيف يُمكن لتصاريف القدر أن تُبعثر كل مخططاتنا وتُبدّل أحلامنا بأخرى رُبّما تكون أكثر عملية لنا.

ركّزت الكاتبة إنعام كجه جي على الحضور الطاغي للشخصيات النسائية، لكن هذا التركيز لم يكن بشكل مُتمركزّ حول الأنثى -حسب تعبير الكاتب عبد الوهاب المسيري- وهو التعبير الذي يشير إلى المفهوم الشهير-النَسَويّة، حيث لم تلغي الكاتبة وجود الرجل في حياة المرأة، بل عزّزَت أهميته كأب أو كأخ أو كشريك في الحياة وسند في ظهر أُنثاه بل وفي قمة تفهّمه وقبوله بكل وعي عمل المرأة. وذلك على غرار التغيير الذي يحدث على مر سنوات حقبة الرواية للمجتمع العربي والعالمي.

وعلى الرغم من اعتناء الكاتبة بالشخصيات الرئيسة في الرواية، إلا أن اللافت للنظر هو اهتمامها بالشخصيات الثانوية ورسمها بإتقان، لهذا فعلى الرغم من شخصية ورديّة المرسومة ببراعة، جاءت شخصيات أخرى ثانوية تحمل طابعًا مُميزًا يترك أثره على القارئ مثل بُستانة المُربيّة وغسّان الطفل الفلسطيني وهِندّة الابنة البِكر وفرنجيّة رئيس الصحة اللبناني وحتى أبو يعقوب اليهودي

قد لا يناسب البعض أسلوب السرد، وقد اشتكى البعض من الملل الذي أصابهم أثناء قراءة النصف الثاني من الرواية، لكنني -وعلى العكس- لم أجد ذلك إطلاقًا. جذبتني الرواية بشكل جارف حتى أنني كنت أجد صعوبة في التوقف عن القراءة، وكنت أتحيّن أي وقت فراغ لأكمل القراءة، ورُبّما كانت طِشّاري هي أسرع رواية -في حجمها- قرأتها في خلال رحلتي القرائية.

قرأت رواية طِشّاري بعد رواية النبيذة - <a href="****">لقراءة مُراجعة رواية النبيذة</a> - وجدت تشابهًا في الإطار العام للحكيّ، وهو استخدام تقنية السيدة العجوز التي تحكي حكايتها مع تداخل بعض الرواة المُختلفين، بالطبع كان الرواة أكثر قوة ومساحة سردية في رواية النبيذة، لكن الإطار العام جاء مُتشابهًا. لكن الغريب هو أنني وجدت طِشّاري أكثر إتقانًا أو أفضل جودة في حبكة الرواية ورسم الشخصيات، حتى أنني ظننت في البداية أن النبيذة هي التي كُتِبَت أولًا، مع الإقرار بأن اللغة في رواية النبيذة كانت غاية في الجمال، لكنني أميل إلى طِشّاري لأن الرواية كانت حقًا تنبض بالحياة!

لإنعام كجه جي قدرة على تطويع اللغة، ومن الصعب ألا يقع القارئ في غرام هذه اللغة الشاعرية، والتي تأتي كتهويدة سحرية تخاطب أحاسيسنا وتهدهد أرواحنا. تأخذنا الكاتبة على بساط كلماتها فنترك الواقع ونرحل إلى أبعاد أخرى لا تعرف أسرارها إلا هي. نحيا في حكايتها وكأننا جُزءًا منها، فنفرح ونغضب ونخاف ونحزن، وعند النهاية لا مناص من أن تترك لنا الكثير من الشجن!

يلوم البعض على الكاتبة عدم ذِكرها -في رواية طِشّاري- لأهل السُنّة في الرواية، وأرى أن الأمر ليس أمرًا حتميًا ولا يُقلّل من النصّ، لأن الرواية لم تكن توثيقًا عن العراق وإنما كانت توثيقًا لرحلة طبيبة عراقية مسيحية رقيقة زادتها الحياة قوة بحُب الناس من حولها وحُب الخير داخلها. وهكذا نرى الرحلة بعيون مُختلفة ورؤية غير نمطية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها مُجرد حكاية واحدة وسط آلاف من الحكايات التي تكوّن جميعها تاريخ العراق.

رُبما لا يعرف الكثير أن شخصية ورديّة إسكندر هي شخصية حقيقية، وأنها هي الطبيبة "ماهي كجه جي" عمّة الكاتبة إنعام. وما كانت الرواية إلا سيرة ذاتية للعمّة المسيحية التي عملت طبيبة في محافظة الديوانية لربع قرن. أحداث الرواية تُطابق أحداث الواقع بكل وقائع الديوانية ومنافي الأبناء والأحفاد وحتى قصة هِندة. بالطبع هناك بعض الاستثناءات مثل تغيير الأسماء وإضافة أقل القليل من الأحداث الفرعية.

رواية طِشّاري للكاتبة إنعام كجه جي، رواية استثنائية رغم عاديتها، هادئة رغم تقلّباتها، عذبة رغم متاعب بطلتها. إنها رواية تفيض بالإنسانية، وسيرة ذاتية تثبت لنا أن الإنسان بلا حلم هو شخص ميّت حتى وإن كان على قيد الحياة!

تقييمي

5 نجمات

ملحوظة

بقي أن أوضّح أن كلمة طِشّاري هي مُفردة تُستخدم في العراق لوصف طلقة الصيد والتي تتشتّت بعد إطلاقها – في مصر تُستخدَم مُفردة خرطوش- وهي تشير إلى التشتّت والتشرذم، وقد جاءت مُفردة طِشّاري في الرواية في إشارة إلى تشتّت الشعب العراقي في أنحاء العالم.

أحمد فؤاد

السابع عشر من آذار مارس 2021

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق