فيض الخاطر - الجزء الثالث > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الثالث > اقتباس

أخطر خطأ في هذا الباب اعتقادنا أن اللغة مقدسة، فنعبدها ونجلها، ولا ندخل عليها تغييرًا ولا تعديلًا، مع أن اللغة خادمتنا وليست سيدتنا ولا إلهنا، هي التي تخضع لنا، لا نحن الذين نخضع لها، هي عرض من أعراض حياتنا كالثوب نلبسه والمتاع نستخدمه والبيت نسكنه، وكل شيء من ذلك يجب أن يخضع لظروفنا ومقتضيات أحوالنا، يغير الثوب حسب تغير الجسم، ويبدل بناء البيت حسبما تتطلبه راحتنا، ويصلح المتاع حسب موقفه منا: وهكذا اللغة هي آلة خادمة ذليلة للتعبير عما في نفوسنا، نملكها ولا تملكنا، وتقدسنا ولا نقدسها، ويجب أن تموت أجزاؤها وتحيى أجزاؤها وتخلق أجزاؤها حسب حاجتنا، وأن تتشكل لنا لا أن نتشكل لها، وإلا كانت لغة أثرية لا لغة حية.

إن كانت اللغة غير مقدسة فمعاجمها غير مقدسة، يجب أن تخضع لكل تقدم علمي نصل إليه، فتعريف الألفاظ يجب أن يكون حسبما أقره العلم الحديث، واللفظ إذا استعمله جيلنا ولم يكن في المعاجم وجاريًا على النمط العربي يجب أن يدون فيها، ولا يحتج بأنه غير موجود في المعاجم القديمة، ولا نصغي إلى هؤلاء المتزمتين الذين يصرخون دائمًا في وجهنا: «إن هذا ليس في القاموس» كأن القاموس كتاب منزَّل يتعبد به — إن هذا النمط من القول شل للفكر وعقدة في اللسان وتعويق للأقلام، وحرام ما نحن فيه من ضياع أوقات المدرسين والمفتشين في الجدال في أن هذه الكلمة في المعجم أو ليست فيه، وفي سبيل ذلك تضيع قيمة المعاني والأفكار والأساليب.كم أعمارٍ ضاعت في هذا الباب على غير جدوى، وكم صحائف سودت في هذا الموضوع من غير طائل، وكل هذا مبني على هذا الخطأ في تقديس اللغة.ما يضرنا أن نستعمل تعبير «من جديد» إذا استسغناه ولو لم يرد في المعاجم؟

وما يضرنا استعمال كلمة «هناء» إذا أقرها أدباؤنا ولو لم توجد في المعاجم؟ ولماذا نفحم في الإجابة إذا قال قائل: إنها وردت في كتاب «العمدة» أو في مقدمة ابن خلدون، ولا يكون لنا الحق الذي كان لابن رشيق وابن خلدون؟!

لقد ظنوا أن «القاموس» نص على كل لفظ عربي، فما لم يوجد فيه فليس بعربي، وهذا غير صحيح مطلقًا، فهو لم يذكر «الرحمن الرحيم» في رحم، وقال: «الشنار أقبح العيب والعار» ولم يذكر العار في مادته، وقال في أول كتابه: «الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي»، ولم يذكر في مادة لغة أنها تجمع على لُغَى، وقال في الخطبة أيضا: «فصرفت صَوْبَ هذا القصد عناني» ولم يذكر في مادة صوب أن من معانيها الجهة، إلى كثير من أمثال ذلك.وهَبْ أن العرب لم ينطقوا بها، فلماذا لا ننطق بها نحن إذا جرت على أساليب العرب وأوزانها وأصولها؟!

كل ما في الأمر أن المسألة لا يصح أن تكون فوضى ينطق كل من شاء بما شاء، وإلا انقلبت الحرية إلى عكس المراد منها، فاللغة مواضعات ووسيلة للتفاهم في حدود معقولة، إنما الواجب أن يكون في الأمة متخصصون مرنون أحرار عالمون بالعربية وأسرارها مطلعون على حاجة الأمة ومطالبها اللغوية، يوسعون على الناس في كلامهم وفق أسس اللغة ويضعون لها ما هي في حاجة إليه.

وهذا هو عمل المجامع اللغوية لو أنها قامت بواجبها.

هذا الاقتباس من كتاب