العبرات > مراجعات رواية العبرات > مراجعة Mostafa Farahat

العبرات - مصطفى لطفي المنفلوطي
تحميل الكتاب مجّانًا

العبرات

تأليف (تأليف) 4.3
تحميل الكتاب مجّانًا
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

"الأشقياءُ فى الدنيا كثيرٌ ، وأعظمهم شقاءً ذلك الحزينُ الصابرُ الذى قضتْ عليه ضرورةُ من ضروريات الحياةِ أن يهبطَ بآلامِه وأحزانِه ، إلى قرارةِ نفسِه فيودعُها هناك ، ثم يغلقُ دونها باباً من الصمتِ والكتمانِ ، ثمَّ يصعدُ إلى النّاسِ باشَّ الوجهِ ، باسمَ الثغرِ ، متطلقاً متهللاً ، كأنّه لا يحملُ بينَ جنبيهِ هماً ولا كمداً "

العبراتُ كما قال الكاتب فى البداية كتبت بعبراتٍ الشاعر وخلجات نفسِه ، فكانت عبراتُه كالنصالِ التى عرفت طريقَها جيداً إلى قلبِ كلِّ من تقع عينُه على هذه الكلمات ، كأنَّ الشاعرُ لا يسكبُ هذه العبرات من عينينه ، بل يسكبها نيابةً عن كل شخصيةٍ فى هذا الكتاب ، كأنه قد راعه بؤسُهم وشقائُهم ، فأبى إلا أن يئنَّ لألمِهم ، ويشقى لشقائهم ، فخرجت الكلمات من بين يديه ، ممزوجةً بحسرةٍ وألمٍ حاولَ الشاعرُ أن يقاوَمه لكن خابتْ مساعيه فى أن يكتمَ هذا الأنين ، فكانت كلماته تتأرجح على القلوبِ ، وتطوفُ بها ، حيثُ تنظرُ إلى هذه الشخصياتِ البائسة ، بنفس نظرة أصحابها ، أو بنفس نظرة المنفلوطى .

من الصعب على نفسى أو الأدق ليسَ من العدلِ أن أقولَ أن هناكَ قصةً كانت أكثرَ شقاءً من أختها ، لأنّى أرى أن جميع القصص الواردة التى جاءت على لسانِ الكاتب أو حتّى المترجمة ، كلّها كانت تعزفُ على وترٍ واحدٍ ، لم تقلْ واحدةٌ عن الأخرى فى تجسيدِ الشقاء ، كانت كلُّ القصص تسيرُ على نفسِ الوتيرة من الحزنِ والألمِ ، كأنَّ الكاتبَ أرادَ بذلك أن يقولَ أن أشقياءَ هذا العالم على كثرتهم ، لكنّهم جميعاً على درجةٍ واحدةٍ من الشقاء رغم اختلاف مسبباتِ هذا الشقاءِ ، التى لم تخرج كلّها فى الكتاب عن سببٍ واحدٍ ، وهو شقاءُ الهجرِ والفراقِ ، فلو أنَّ للبؤسِ والشقاءِ جمالٌ لكانَ هذا الكتاب بجمالهِ وروعته على رأسِه .

....

[ اليتيم ]

" وأنَّ تلكَ الوردةَ التى كانتْ تملأ الدنيا جمالاً وبهاءً قد سقطتْ ورقةٌ من ورقاتها ، فحزنتْ عليها حزنَ التاكلِ على وحيدِها ، وما رئى مثل يومها ، يوم كان أكثر باكيةً وباكياً "

فى قصة اليتيم يصورُ مدى ارتباطِ المحبِّ بالمحبوبِ ، وأنَّ تلك القلوبَ التى عقدَ الحب رباطها ، صعبٌ عليها ان تفترقَ ، وأنَّ كلَ السبلِ أعجزُ من أن تفرِّقَ بين محبِّ ومحبوبٍ ، فإذا ما حدث الفراقُ رغماً عنهم صارا ، كالزرعةِ التى اقتلعوها من أرضها وظنّواْ أنها قادرةٌ على النماءِ فى غير مكانها ، كذلك القلوبُ لا تستطيعُ أن تعيشَ بعيداً عمّن تحبَّ ، كأنَّ حياةَ المحبِّ انعقدتْ بحياةِ محبوبِه ، فكانتْ الحسرةُ على قدرِ الحبِّ الأمرُ الذى يثقلُ على قلوبِ المحبين ، فيغادرواْ هذا العالمِ سريعاً ، لانَّ الحياةَ التى كان يحياها إلى جوارِ حبيبه ، أنعمُ من هذه الحياةِ التى يحياها سائرُ البشرِ .

لذا عزَّ على هذا اليتيم أن يغادرَ حبيته ، لكن الظروفَ التى كانتْ أقوى منه أرغمته على الفراقِ ، فلم تطق الحبيبةُ فراقَه ، ولم يرُقْ لها هذا الجفاءُ فى بعد حبيبها ، فلزمتْ سريرَ المرضِ ، ثمّ برسالةٍ إلى الحبيبِ وهى آملةٌ أن تراه لكن وافتها المنيّة ، قبلَ أن تملى عينيها بنظرةٍ واحدة له ، فما أن رأى الحبيبُ هولَ مصيبته حتّى لحقَ بها الحبيبُ ، كى يهتديا سوياً فى الحياةِ الآخرةِ .

" وكذلك يعبثُ الدهرُ ُ بالإنسانِ ، ويذيقه ما يذيقه من صنوفِ الشقاءِ ، وألوانِ الآلام ، حتّى إذا علمَ أنّه قدْ أوحشَه وأرابه ، وملأَ قلبَه عيظاً وحنقاً أطلعَ له فى تلكَ السماءِ المظلمةِ المدلهمةِ ، بارقةٌ واحدةٌ من بوارقِ الاملِ الكاذبِ ، فاستردَّه بها إلى حظيرتِه راضياً معتبطاً ، كما تقادُ السائمةُ البلهاءُ بأعوادِ الكلأِ ، إلى مصرِعها ، فما أسعدَ الدهرَ بالإنسانِ ، وما أشقى الإنسانَ بهِ " .

ما أتعسَ الإنسانِ حينما يعيشُ وراءَ خيالٍ كاذبٍ ، ويمنى نفسَه الآمال الواهمة ، حينها يكونُ الشقاءُ على قدرِ المشقةِ ، حينَ منّى الولدُ أنيبحثَ عن خالِه المفقودِ ، من الممكنِ أن يكون قد خولتْ له طنونُه أن ما يفعلُه قد يكون محضُ سرابٍ يسيرُ وراءَه ، لكنَّ أملَ أن يكون الخلاصُ لوالدته من شقاءِها ، هو أن ياتىَ لها بهذا الخال الذى طواهُ الزمنُ عنهم ، وصارُ ذكرى مؤلمةً ، لا تفتأُ الأمُّ تذكرُه حتى يغرورقَ قلبُها بالدمعِ قبل العينِ .

حينما ذهبَ الولدُ إلى أمريكا وحازَ على الجائزةِ ظنَّ أن الدنيا كشفتْ له عن ثغرها ، وظنَّ ان الخلاصَ هنا ، أن السعادة التى غابتْ عنهم كثيراً ، يوشكُ أن تعرفَ طريقَها إليهم ، فصارا فى الطريقِ الذى عزمَ على المضىِّ فيه ، وهو البحثُ عن الفقيدِ الذى كاد الزمنُ أن يطيوه فى أحشائِه .

لكن هناكل علمَ ان تلك البارقةَ من الأملِ التى لاحتْ له ، لم تكنْ إلا خدعةٌ جديدة من خدعِ الدهرِ ، وانَّ ما كانَ مينيه لنفسِه من سعادةٍ فى الأمسِ الدابرِ ، صارَ صفحةً سوفَ يطويها الغدُ القدامُ ، وأنّ كلَّ تلك الأمالى صارتْ صفحةً فى كتابِ الدهرِ الغابر .

وقعَ فى يدِ عصابةٍ من الزنجِ سلبتْ منه أعزَّ ما يملكُ أىُّ إنسان ، سلبتْ منه حريته ، ولا أشقَّ على الإنسانِ ، من أن تكونَ له روحٌ بين جنبيه ، ولا يملكُ هذه الروحَ ، وإنما تكونُ أسيرةً فى يد أحدٍ غيره ، حينها يكون الموتُ أفضلَ له ألفَ مرّة من هذه الحياةِ الزائفة الكاذبةِ ، ظلَّ هناك أسيراً ، لا يعرفُ للحياةِ طعماً ، لا يعرفُ للشقاءِ طعماً ، لا يعرفُ للسعادةٍ طعماً ، وحده الذى كان أنيساً له فى الكهفِ الذى حُبسَ فيه ، هو هذا الشعاعِ الذى كان يتسللُ له خُفيةً من ثقبٍ صغيرٍ ، يقضى معه النّهارَ بطوله ، فإذا جنَّ الليلُ أخذ هذا الشعاع يتسرُّب كقطرات الماء عندما تتللل من السقاء قطرةً إثرَ قطرةٍ ، ثم يرتدُّ هذا الشعاعُ مرةً أخرى إى لاسماءِ التى أتى منها .

حينَ تضيقُ الحياةُ بالإنسانِ وتتباعدُ بينه وبين النّورِ والأملِ الخطوات ، وتكونُ هذه النّعم بالنمسبةِ له محضُ وهمٍ ، هنا تكونُ أكثرَ لحظات الدنيا صدقاً ووفاءً للإنسانِ ، كان هذا الأملُ الذى أنقذ الفتى هو .. الحبُّ ..

استطاعَ الحبُّ أن ينقذَ الاملَ الباقى فيه ، وانتشلَ بعضَ الجمالِ الذى كاد أن ينضبَ بداخلِه ، وهنا يحقُّ له أن يذكر الشقاءَ والسعادةَ ، والغربةَ والوطن ، فحيثُ استقرَّ القلبُ على ما يصبو إليه ، عرفَ الإنسانُ مكانه من نفسِه ، ووجده بعد لأى ، هنا يحقُّ للإنسانِ ان يقولَ أنّه حىٌّ .

كان الخلاصُ فى ابنة خالته ، التى شاءَ القدرُ أن يفرّقَ بينه وبين خاله ، فلم يضنُّ عليه الدهرُ ومنحه الخلاصَ فى التى وجدَ نفسَه فيها ، فى ابنة خاله ، لكنَّ القدرَ أبى عليه السعادةَ مرةً أخرى ، إذ ودعت ابنة خاله الدنيا سريعاً ، ويلحقُ بها الحبيبُ ، بعد أن عرفَ ألا حياةَ بعد الحياةِ الهنيئة التى نعمَ بها للحظات ، وعرفَ انَّ ما دونَ تلك الحياةِ بؤسٌ وشقاءٌ .

[ الحجابُ ]

" لقدْ كنّا وكانتْ العفّةُ فى سقاءٍ من الحجاب موكوء ، فما زلتمْ بهِ تثقبونَ فى جوانبِه كلّ يومٍ ثقباً والعفّةُ تتسللُ منه قطرةً قطرةً حتى تقبّض ، وتكرّش ، ثمّ لم يكفكم ذلكَ منه حتّى جئتم اليومَ تريدونَ ان تحلّواْ وكاءَه حتّى لا تبقى فيه قطرةٌ واحدةٌ "

هنا يتعرّضُ الكاتب لقضيةِ الحجاب ويبرزُ قيمتَه من خلالِ صاحبِه الذى سافرَ إلى أوروبا ، وجاءَ بوجهٍ غيرَ الذى ذهبَ به ، فقد تحوّلَ من إنسانٍ خلقُه كأحسنِ ما يكونُ عليه الإنسانُ من صفاتٍ إلى رجلٍ يدعو إلى تطبيقِ الفكرِ الغربى بحذافيرِه ، مع هدم هذه العاداتِ الشرقيةِ الجاهلةِ كما يرى ، وأولُها هو القضاءُ على فكرةِ الحجاب ، لأنَّ هذا فى رأيه تعدّى على حقوقِ المرأة فمن حقِّ الرجلِ أن يرى المرأة كما تراه المرأة أيضاً .

لكنَّ الكاتب حاولَ أن ينفنّدَ وجهةَ نظرِه فى أن أحسنَ شئٍ للمرأة هو أن تتزيّنَ بحجابِها ، كما تعرّض أيضاً لفكرة اختيار الزوجِ لدى المرأةِ ، ومشكلة الحبِّ ، والتعليمِ ومشكلةِالذوقِ وفى كلِّ مرّة كانَ يحاولُ أن يبينَ لخصمه ، أن الإسلامَ والعادتِ الشرقية ، لم تنقصْ من حقِّ المرأة ، وأنَّ الأفكارَ الغربية ، بالنسةِ لنا مثل الى لا تستطيعُ ان تنبتَ إلا فى أرضها .

[ الذكرى]

" اسفكواْ من دمائِنا ما شئتمْ ، واسلبواْ من حقوقِنا ما أردتمْ ، واملكواْ علينا مشاعرَنا وعقولَنا ، حتّى لا ندينَ إلا بما تدينونَ ، ولا مذهبُ إلا حيثُ تذهبونَ ، فقدْ عجزنَا عن أن نكونَ أقوياءً ، فلابدَّ أن ينالنا ما ينالُ الضعفاءُ "

ما زالَ الكاتبُ يطوفُ بنا فى سماءِ الحنينِ والذكرى ، وألمِ الفراقِ ، وشقاءِ الهجرِ والحرمان ، لكن هذه المرّة ، صاغ حكايته التى لا تنتهى فصولُها ، عبر قصةِ بنى الأحمر ـ آخر سلالةٍ ، حكمتْ بلادَ الاندلسِ ، والتتى سقطتْ من أيديهم آخر قطعةٍ منها ، وهى غرناطةُ .

لكنَّ الكاتب بعدَ هنا عن السردِ التريخى ، فحكايةُ سقوطِ غرناطة هنا ، لا تعنيه كثيراً ، لكنَّ الذى يعنيه هنا أكثر ، هى ما تبعَ سقوط غرناطة ، هو هنا يتحدثُ عن اللوعةِ والحسرةِ التى خلفها السقوط ، كأنَّ السقوطَ كان الموتُ البطئ الذى لحقَ بملوكِ بنى الاحمر وذريتهم من بعدهم ، وظلوا يبكون طوال عمرِهم كالنّساءِ على ملكٍ لم يحافظواْ عليه كالرجالِ ، حتّى بعدَ ان ماتوا جفّتْ القبورُ من الدمعِ المبللِ عليها ، كأنَّ الأحياءَ صاروا ملهيين فى عذابِ الذكرى الأليمةِ ، فكانت أهولُ عندهم من اجدادٍ لم يرتبواْ ويراعواْ لحظات كهذه .

صوّر الكاتب الفاجعةَ هنا فى شخصيةٍ واحدةٍ وهى شخصيّةُ [ سعيدُ بنُ يوسفَ بن أبى عبدالله ] ، هذا الفتى الذى لم تكنْ له أمنيّةٌ فى حياته سوى أن يرى مرةً أخرى ، قصورَ غرناطة ، وخصوصاً قصرَ الحمراء ، الذى كادت قبته أن تعانق سحابَ السماءَ ، وتحلقَ مع الطيورِ السابحةِ فى حجوِّ السماء ، تمنى أن يسيرَ مرّةً أخرى على ضفافِ أنهارها ، وأن ينعمَ بنرظةٍ إلى جداولها الخضراء .

لكنَّ الأيامَ لم تضنّ على هذا الشاب المسكين الذى ذاق عذابَ الذكرى ، وشقاءَ الهجرِ ، فكانَ لهذا القلبِ المكلومِ ان يستريحَ من هذه العذاباتِ ولو قليلاً ، وهنا كان الخلاصُ بالنسبةِ له فى فلورندا .

أحبّ الشابُ فلورندا وأحبته هى أيضاً ، وصارَ يحتملُ ى شئٍ فى الحياةِ إلا أن يحتملَ لوعةَ فراقِها ، فأحبّها حبَّ الزهرةِ الذابلةِ للقطرةِ الهاطلةِ ، لكنَّ الدهرَ دائماَ يضحكُ علينا بلحظات يكشفُ لنا فيها عن ثغره ، لكن سرعانَ ما تتبدّى حقيقتُه لنا ، فتتلاشى تلكَ السعادةَ التى كانتْ تغمرُ قلوبَنا ، وينطفئُ هذا الأملُ الذى اتقدَ داخل نفوسِنا ، وهنا يكونُ الشقاءُ ، وهنا يكونُ موطنُ البؤسِ الذى ليس بعده بؤس .

فرّقتْ يدُ الدهرِ بين الحبيبين ، وكانتْ ضريبةُ الحبِّ هى رقبةُ هذا المحبِّ الصادق ، لكنَّ ظلّتْ ذكراه خالدةً ، وسيرتُه حيّةً إلى الآن ، فبجانب قبره ، كتبت عبارةُ :

" هذا قبرُ آخر ملوكِ بنى الأحمر "

" من صديقتِه الوفيّة بعهدهِ حتّى الموتِ "

" فلورندا فيليب "

[ الهاوية ]

" الآنَ عرفتُ أن الوجوهَ مرايا للنّفوسِ تضئُ بضائِها ، وتظلمُ بظلامِها ، وحسبنا من الشقاءِ فى هذه الحياةِ ما ياتيه به القدرُ ، فلا نضمُّ إليه شقاءً جديداً نجلبُه بأنفسِنا لأنفسِنا "

حاوَ الكاتبُ أن يصوّر هنا المعنى الحقيقى للسعادة بالنسبةِ للإنسانِ وهى أنّها تكونُ بين زوجتِه وأولاده ، لأنهم هم الاجدرُ بحبه ، وهو الاجدرُ بحبهم ، ومهما حاولَ الإنسانُ أن يبحثُ عن أسبابِ السعادةِ فى وسائلَ أخرى فلن يجدى نفعاً ، وسيعودُ مرّة أخرى ، إلى أسرته الصغيرةِ ، التى هى بمثابة فرديس من فراديس الجنّة ، هنا سيجدُ من يحنو عليه ، أمّا أى شئ آخر ، سيكشفُ الإنسانُ زيفَه ، حينما يكونُ قد أخذ منه اعزَّ ما كانَ يمكله .. ان يأخذَ منه قلبَه .

[ الجزاءُ ]

" لا تعرفُ المرأة لها وجوداً إلا فى عيونِ الرجالِ وقلوبِهم ، فلو خلتْ رقعةُ الأرضِ ، من وجوه النّاظرينَ أو أقفرتْ حنايا الضلوعِ من خوافقِ القلوبِ ، لأصبحَ الوجودُ والعدمُ سواءً "

فى هذه القصة حاولَ الكاتبُ ان يعالجَ بطريقةٍ أخرى نفسَ النظرةِ التى تحدّثَ عنها فى القصةِ السابقةِ ، وهو على الإنسانِ السعيدِ ان يقنعَ بمسبباتِ سعادته وألا يطمعَ فى أساليب أخرى ، قد تضيع عليه هذه السعادة ، وهذا ما حدثَ بالفعل مع " سوزان " ، حينما حلوت أن تبحث على السعادة مع فتى آخر غير جلبرت .

فكانت النهاية مأساوية ليس لسوزان فحسب ، بل كان لها ، ولجلبرت ، والفتى الذى أحبها ، وابنتها أيضاً ، لذا بعد هذه القصة أصبحت مقتنعاً تمامَ الاقتناعِ بالقاعدةِ التى تقولُ " تجنّبواْ جراحاتِ القلوبِ ، فإنَّ جراحاتِها قاتلةٌ " ، فما أشدَّ حسرةَ القلوبِ حينما تبحثُ عن سعادتها فى أشياءِ تدركُ متأخراً زيفَها وسذاجتها .

[ العقاب ]

" واعجب للنّاسِ فى ضعفِهم واستحذائِهم ، أمامَ القوةِ القاهرةِ وغلوِّهِم فى تقديسِها وإعظامها وإغراقِهم فى الثقةِ بها والنّزولِ على حكمِها عدلاً كانَ أو ظلماَ ، وكما أن النّارَ لا تعالجُ بالنّارِ ، وشاربُ السمِّ لا يُعالجُ بالسمِّ ، وأنَّ مقطوعَ اليدِ لا يُعالجُ بقطعِ اليدِ ، كذلكَ لا يُعالجُ الشرُّ بالشرِّ ، ولا يُمحى الشقاءُ بالشقاءِ "

حينَ تغيبُ العدالةُ بين النّاس ، ويتولّى أمرَ القضاء بينَ النّاس قضاةٌ أقصى امانيهم ، هو جمعُ أكثرَ ما يستطيعونَ من أموالٍ ، حينَ يلبسُ الحقُّ رداءَ الباطلِ ، ويلبسُ الباطلُ رداءَ الحقِّ ، حينَ تصيرَ كلمةُ العدلِ ، أقصى معرفةِ النّاسِ بها ، هو أنّها كلمةٌ متكوبةٌ على لافتةٍ معلقةٍ على جدرانِ وأسوارِ المحاكم ، ومن يتولوا أمرها أبعدُ ما يكونونَ عنها .

عبرَ ثلاثةِ أحكامِ أصدرها مجلسُ القضاءِ الظالمِ على ثلاثةِ أشخاصِ استطاعَ الكاتب أن يعبرَ عن مدى الظلمِ الذى استفحلَ فى الأمّة ، عن طريقِ إصدارِ أحكامٍ دونَ سماعٍ لأقوالِ المحكومِ عليهم ، كأنَّ القاضى يُصدرُ حكمه بناءً على حكمٍ ، أتى له ممن فوقه ، وكل تلك المحاكمات ما هى إلا فصول من المسرحيةِ الهزليّة ، التى تقامُ على مسرحِ دورِ القضاءِ ، لكن الجمهورَ لا يضحكُ ، إنما يُحالُ ضحكه إلى حزنٍ مكلل بأنهارٍ من الدموعِ ، والصرخات والآهاتِ .

الأول أجرمَ الكاهنُ فى حقه حينما أبى أن يعطيه ما يسدّ به رمقه ، ويدفعُ عنه عاديةَ الجوع ، فاضطرَّ أن يسرقَ ، فكان عقابُه الموت .

والثانى الذى مات دونّ عرضِه وشرفهِ ، فكان الحكم العادلُ لهذا الشريف هو أن يموت ، ربما أبرر موته ، لأن الشرفاء مثلهم يانفون ان يحيوا على هذا الأرضِ .

وأما الثالثة فحينما رفضتْ أن تسلّم قلبها إلى القاضى الذى لا تحبّه ، فكان حكمها الموت أيضاً .

" ها هم النّاسُ قد عادواْ إلى ما كانواْ عليه ، وها هى الأرضُ قد ملئت شروراً وفساداً حتّى لم يبقَ فيها بقيةٌ طاهرة ، يستطيعُ ان ياوى إليها ملك من أملاكِ السماءِ "

لأنَّ الفقراءَ يزدادونَ فقراً ، والأقوياء والمتكبرين يزدادون عنفاً وظلماً ، والقضاةُ الذينَ وضعواْ القوانينَ أصبحواْ يطالونَ بها ما لا يرغبون ، وينالونَ بها ، ولا يُنالونَ .

[ الضحيّة ومذكراتُ مرغريت ]

" إنَّ للحبِّ فنوناً من الجنونِ ، وأقبحُ فنونِه أن يعتقدَ المتحابّان أن حبَّهما دائمٌ لا تغيّره حوادثُ الأيامِ ، ولا تنالُ منه الصروفُ والغيرُ ، ولو عقلا لعلما ، أنَّ الحبَّ لونٌ من ألوانِ النّفسِ ، وعرضٌ من أعراضِها ،الطائرةِ ، تأتى به شهوةٌ وتذهبُ بهِ أخرى ، ولا يذهبُ بهِ المثلُ مثل الفاقة إذا اشتدتْ واستحكت حلقاتُها فإنْ النّفسَ تطالبُ حياتها وبقاءَها ، قبلَ أن تطلبَ لذائذها وشهواتها "

هنا فى هذه القصة يحاولُ الكاتب أن يرجعَ مرة أخرى إلى جنّة الحبّ ، بعد أن شردَ قليلاً هنا ، وكأنَّ الكاتبَ أحبَّ أن ينتهى بما بدأه ، وهو التأكيد على ضرورةِ الحبِّ فى حياتنا ، لأننا بدونه أمواتاً ، وإنْ تظاهرنا بالحياةِ ، لكنْ النهايةِ لم تكنْ خفيفةً على القلوبِ ، النهايةُ كانت صعبةً كثيراً ، ربما تكون اكتسبتْ صعوبتها نظراً لطولِ صفحاتها ، أم لطولِ قصةِ الحبِّ الممتدة بين ( مارغريت وأرمن ) .

أقصدُ أنها كانتْ صعبةً ،لأن نهايةَ الحبيبين كانت كعادةِ الكاتب فى نهاية كلِّ القصةِ ، وهو الفراقُ ، كأنّى بالكاتب أرادَ أن يؤكدَ كثيراً على خطورتِه ، كأنّه أرادَ ان يقولَ أن فى الفراقِ هلاكُ المحبين ، سيتركُ الفراقُ جرحاً غائراً فى قلوبهم ، لا تقدرُ الأيامُ على مداواتِه ، فى الفراقِ منبعُ الشقاءِ فهو مثلَ الشمسِ الحارقةِ التى تقتلُ النباتَ الاخضر المعشوشب .

الكاتبُ أرادَ أن يقول :

أن لكلِّ روحٍ من الأرواحِ روحاً أخرى تماثلُها وتقابلُها ، وتسعدُ بلقائِها ، وتشقى بفراقِها ، والشقاءُ يكونُ حينَ تضلُّ كل روحٍ عن أختِها فى الحياةِ الاولى فذلكَ شقاءُ الدنيا ، وأن تهتدى إليها فى الحياةِ الثانية وتلكَ سعادةُ الآخرةِ ، فإنْ فاتَ الإنسانَ سعادةُ الأرضِ ، فحتماً ستدركُه سعادةُ السماءِ !! ..

فى النهاية هل استطاعَ الكاتبُ أن يعالجَ بعبراتِه شقاءَ الأشقياءِ ؟ ، هل كانتْ عبراتُه سلوى وتعزيةً لهم ؟ ، أمْ أنَّ الأشقياء الذينَ أتى بهم الكاتب إنّما هم شخصياتٌ خيالية ، وأننا نحنُ الأشقياء الذى سكب علينا الكاتبُ عبراته ؟ ، وهنا يكون السؤال ، عل عالجتْ عبراتُه شقاءَنا ؟ .

لا أظنُّ ذلك لأنه كما قال " لا يُمحى الشقاءُ بالشقاءِ "

Facebook Twitter Link .
26 يوافقون
2 تعليقات