وانت السبب يابا... الفاجومي وأنا > مراجعات كتاب وانت السبب يابا... الفاجومي وأنا > مراجعة Hosam ElDin

وانت السبب يابا... الفاجومي وأنا - نوارة نجم
تحميل الكتاب

وانت السبب يابا... الفاجومي وأنا

تأليف (تأليف) 4.5
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

«هذه قصة حب حقيقية منزهة عن الأغراض، منبهرة بالنسخة الإنسانية في أحلك ظروفها، دفع أبي ثمن قصة الحب هذه ودفعت معه ودفعت أختاي، وقد رأى أبي أن ذلك حسن»

يقول علماء النفس أن المرء رهين الطريقة الأولى التي قُدم بها الحب إليه في العالم، تلك الطريقة ختمت مصيره للأبد، لإنها حددت كيف سيقدم الحب للعالم وكيف سيستقبله؟

يصف الكتاب الشاعر نجم، باعتباره طفل ذكي ولد في فرع محزون من عائلة ثرية، عزوة خذلته، ليتم إيداعه في الملجأ تسعة أعوام، رغم وجود أمه، يقول فرويد أن الأعوام الأولى تُشكل وجدان الطفل للأبد، سيخرج نجم ليتخذ من الفقراء والمساكين عزوته، ليتخذ من الأولياء شخصية أبوية بديلة، شخصية حانية تمنحه المدد الذي لم تمنحه له عائلته، ليتخذ من شخصية السندباد الأسطورية عنوان لروحه، رحالة لا يستقر لإن إستقراره الأول كان في ملجأ لعين، فصار الخروج حُرية والكمون في مكان-أي مكان- سجن.

رجل نحيل يُحب الإنسانية من كل قلبه، يُحب المعاني الكُبرى ويغرق فيها حتى لا تكاد ترى خصوصيته، يهيم بالفقراء والحُسين والسندباد، يحب أيقونات ومعانً جماعية بعيدة، يُقاربها بالشعر، لكن ماذا عن المعاني القريبة؟. رجل يهيم في حب العام، يُفني نفسه في الناس بصوفية مُحب لينسج منهم شعرًا، لكن ماذا عن الخاص؟. ماذا عن الصوفي خلوًا من طريقته وناسه ونُسكه وأصحابه؟ ماذا عن الزوج والأب والرجل بين أربعة جدران مُغلقة مع أسرة تخصه؟

تُجيب نوارة نجم عن هذا السؤال، تقول أنها لا تحتكر نجم، تؤكد ذاتيتها مرارًا، هي تكتب بعيني إبنته، لا تكتب ما حدث بل ذاكرتها الشعورية عما حدث، تعترف أن وجدانها متورط بالكامل في صياغة المعاني، ورغم ما يوحي به عنوان الكتاب من هاجس المُحاكمة على طريقة كافكا، تؤكد نوارة أنها لا تملك الحياد أو الموضوعية لتكون إدعاء أو قاضً، كذلك لا تملك التراجيديا الكافية لتتحدث كضحية، بشجاعة إستمدتها من أديبات صادقات مثل أناييس ين، شجاعة تهمس لها أنها مؤتمنة على زاوية ومنظور لا يُشاركها أحد فيه، تمنحنا نوارة زاوية لا تتأتى إلا لها، لإنها إبنة رجل إحتل بحضوره المجال العام طويلًا، كلنا تلونا أشعار نجم، تمثلنا معانيه، أحببنا مٌشاغباته، وصدمتنا مُبالغاته، لكننا لم نراه أبدًا من زاوية الأب.

أكثر ما يفتنني في الصدق أنه لا يمنحك دومًا النجاة أو المعنى الذي تتمنى أن تنسج منه قناع حكايتك، الصدق ضريبته ألا تنتظم معه السردية على معنى واحد، لإن تمثل المرء لصدقه سوف يدعو للحضور كل الفوضى بداخلنا، الحب، الكره، الخوف، الغضب، السكينة، مادمنا تمثلنا الصدق، لا مفر من دعوة كل عناصر الفوضى تلك لمائدة الحضور، لهذا أميز بسهولة السير الذاتية الصادقة من التجميلية أو سير الإدانة. وتلك السيرة كانت صادقة حد الحُزن والإلهام والهزل كذلك.

مثلما تشكلت ذات نجم بغرابتها وجماليتها من طفولته القاسية، مثلما جعلته شاعرًا عبقريًا، جعلته كذلك أبًا سيئًا مثل السندباد يرحل دومًا في أشد أوقات الإحتياج له من بناته، لم يمنحه القدر منزلًا مُستقرًا ليمنحه لأطفاله، يبدو مثل رجل يهرب نحو حريته لكنه يفر كذلك من شياطين لا يعلمها أحد سواه. مُغرم بالحُسين الذي إفتدى العالم في سبيل الكلمة، ومات لأجلها، لكن ينسى كثيرون أن أسرة الحسين ومُقربيه هلكوا معه.

(مش هاحتفل بذكراك خلي الناس اللي شربتني المر عشانهم يحتفلوا هما)

تعبر نوارة في ذكراه الثالثة عن غضبها من كل ما هو عمومي، من المساحة التي أفنى أبيها نفسه فيها هاجرًا الخاص، هاجرًا أدوار لم يكن ليلعبها أحدًا سواه، يمكن أن ينوب شاعر عن نجم في حضور عام مثلما فعل الشعراء مرارًا في ندوات على شرفه لم يحضرها، لكن من ينوب عن أب غائب؟

يتمثل نجم الحٌسين الذي أحبه في كل شيء، في نصرة المظلوم والمعنى والكلمة، وكذلك في تراجيديا رجل مات في أرض بعيدة، مات رحالة، يسير خلف معنى يأسره ويسير أهله والعالم خلفه لهاثًا.

_

يسير الكتاب بصدق خلف حقيقة أصحابه، في صفحات يبدو الأب بطلًا وفي أخرى يبدو نذلًا، في صفحات تبدو الأم ملاك حارس وربة شرسة تدفع عن إبنتها شر العالم وفي أخرى تبدو مثل أم مصرية أصيلة لم توفق و عاملت مواقف أحيانًا بطرق صنعت نُدبة للأبد في وجدان إبنتها، وعبر الصفحات يتشكل ببطء وجدان نوارة، تدرك أن الجميل والقبيح في حكايتها، جديلة تضفرت بالتساوي لتجعلها ما هي عليه.

أجمل ما في الكتاب قدرة الراوي على إيجاد صوته الخاص، على إيجاد نوره بينما هو ولد في ظل أيقونات طاغية الحضور، رجل وامرأة كليهما يمتلك ذائقة سرد يصعب مُطاولتها، كليهما كتب عن نفسه مرارًا، وقدم نفسه للعالم ببلاغة يصعب مُطاولتها، لا تتورط الكاتبة في تقديم أبويها على منصة تكريم أو مُحاكمة إنما حسب تعبيرها

«أظن أن كل ولد (بمعنى ذرية) عليه أن ينتزع حقه من والده شاء ذلك الوالد أم أبى»

تقول نوارة أن أختها عفاف ماتت حُزنًا، تمسكت دومًا بسردية مؤثرة عن كل ما حُرمت منه، سردية أقرب للمُرثية، بينما أختها زينب ماتت حُزنًا وهي تمتلك دومًا الظن أن أبيها لم يُحبها بما يكفي. الظن الذي كان لعنة طالت بناته الثلاث، لذلك تختار نوارة أن تملك حقها من السرد، حقها في أن تُشكل سرديتها قبل أن تموت، كيف صارت ما هي عليه بحضور أبيها في عالمها وبغيابه عنه، تتحدث عن كل جمال مرره لها أبويها وكيف ستُمرره لأبنائها، وكل حزن مرره لها أبويها وكيف ستُعفي أبنائها منه؟ وهذا الإدراك العابر لكل جيل هو أجمل ما في الكتاب. لا تُخبرنا نوارة فقط عن الإرث الذي صنعها؟ لكنها تُخبرنا عن الإرث الذي ستُمرره لأبنائها، هذا الإخبار العابر هو كسر جمالي لدوائر التكرار، كسر جمالي لن يجعل فرويد سعيدًا :))

محاولات التقديس أو الإدانة ما هي إلا دوران أبدي في الدوائر ذاتها، أنك أسير ما حدث، وما الشعور بالتقديس أو الكراهية إلا وقود لإكمال الدوران في دوائر الماضي دون فكاك، أما كسر الدائرة وعدم تصديرها لمن يأتي بعدك رهين أن ترى كل ما حدث من الخارج، أن تراه وقد صرت حُرًا منه، أن ترى أبويك كبشر وحسب، أبناء تجربتهم بحلوها ومُرها، يقول علماء النفس كذلك: أن تحررنا من كل جمال أو شر رهين إدراكنا، لكنه كذلك مسئوليتنا وحدنا. لا من منحونا الجمال والشر.

هل ترى نجم سيئًا في النهاية؟ عظيمًا؟ إلهًا؟ صعلوكًا؟ شيطانًا؟ عدميًا؟ صوفيًا؟، تمنحنا نوارة الحل:

«ماذا عسانا أن نفعل أمام هذه الكحولة؟ نحترم التجربة الانسانية أيًا كانت، فالإنسان في حد ذاته فردًا كان أو مجموعة، مخلوق جميل، مكافح، معذب، متفرد بين زملائه من الثدييات والفقريات والحيوانات بشكل عام»

تؤكد فقط أنه كان كل ما سبق لكنه لم يكن سياسيًا أبدًا، السياسة فن تجميل الحقائق وتوحيد السردية وطرح الصدق جانبًا لصالح إتساق كاذب يُظهر وجهًا واحدًا من الملحمة أو المأساة، بينما هذا الكتاب يمنح أفراده كل تجلياتهم وأبعادهم، يؤنسن أصحابه، بما يُظهر جمالهم وعيوبهم.

«نوارة دي أمي مش بنتي»

تقول نوارة أن أبوها عاملها مثلما عامل أمه، كان يعشقها ويُقدسها لكنه كذلك كان يفر منها دومًا لإنها تخلت عنه وأودعته في الملجأ، ذلك التناقض سيُشكل حقيقته للأبد، سندباد شاعر يرتحل من بلد لآخر، لكنه يناقض نفسه ويتخذ زوجة وذرية في كل بلدة، يعلم أنه لن يستقر معهم، ويتركهم يحاولوا تشكيل حضوره من مأساة غيابه وفتات زياراته.

كانت نوارة إمتداد لمأساته مع أمه، كان يُحبها ويتركها مرارًا، كذلك كل أخواتها.

ربما هذا الكتاب هو جمالية مُكثفة تناقض ما سبق، تناقض أن يمنح أحدهم لشخص يُحبه دورًا لا يخصه، لا تحاول نوارة أبدًا أن تتحدث بلسان الآخرين، أن تُصادر على تجربتهم، لا تتقمص أصوات لا تخصها، لا تلعب دورًا لا تستحق أن تكونه، تُحب أبيها لكنها تقول بصدق كيف كانت مرآة لأمه، تُحب أمها لكنها تقول بصدق كيف حاولت أمها أن تجعلها نُسخة مما تؤمن به بالحجاب وبصور أخرى، تُحب أبويها لكنها تُسائل كل جزء في هويتها تشكل خوفًا و طمعًا في أن تكون مثلهم. تُحب أبويها لكنها تصارحنا أنها كانت تخاف السجن و تشعر بالخزي عندما يتجلى ضعفها الخاص بينما هي إبنة لمناضلين خبرا السجون جيدًا.

لكنها ترينا في السرد كيف أن

الضعف الإنساني

هو عنوان الحكاية، يُمكن لنجم أن يواجه قنابل مسيلة وسجن وسلطات بحجم دولة كاملة لكنه يرتعد ويبكي خوفًا على إبنته دون أن يعرف كيف يُساعدها؟، يُمكن أن يحرر ملايين في ميدان ليتخذوا من أشعاره إنجيلهم الخاص لكنه لا يعرف كيف يتحرر أبدًا من حكاية قديمة لم ينال فيها الحُب الذي يستحقه؟.

الصدق دومًا يُحرر كاتبه، لا يجعله أكثر جمالًا، لا يجعله أكثر وحشية، يجعله إنسانًا وحسب، ويمنح كل المرويين في السرد صك حُريتهم من توقعات الآخرين التي حاكموهم لها في كل وقت، وفي ذاك وحده يُمكن للكاتب أن يُجاوز سجون حكايته ليتأملها من الخارج، يدين لها بكل ما جعله ما هو عليه، ويؤمن أنه أخيرًا تجاوزها كفاية ليرويها بتمهل وسكينة، أو كما يقول توماس ميرتون:

«أخيرًا ها أنا أصل إلى قناعة أن أقصى ما أطمح إليه هو أن أكون ما أنا عليه بالفعل فأنا لن أستطيع أبدًا أن أفي بالوعد الذي قطعته بأن أتجاوز ذاتي و أتفوق عليها ما لم أتقبل نفسي أولًا كما هي ، و لو إنني تقبلت نفسي قبولًا كاملًا على الوجه الصحيح فسأكون حينها قد تجاوزت نفسي و تفوقت عليها بالفعل»

_

تقول نوارة في مُبتدأ كتابها أنها تكتبه بوجدانها، لا تحتكر المرويين، ولا تتلو حقائق بل مشاعرها عن تلك الحقائق، تلك شروط كتابة الشعر كذلك، الشعر ذاتي وصادق بقدر صدق ألم صاحبه لا بقدر ما حدثت المرويةالتي تتناولها القصيدة، كتاب بديع يستحق القراءة كشعرية وإن لم يكن شعرًا، ربما لإنه حقق كل شروط الشعر أو كما قال نجيب سرور:

الشعر مش بس شعر

لو كان مقفي وفصيح

الشعر لو هز قلبك وقلبي

شعر بصحيح

شكرًا على كتاب جميل هز القلب، ورحمة الله وسلامه على أحمد فؤاد نجم، وكل الراحلين اللي حضروا في الكتاب بطيف من جمال

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق