يسمعون حسيسها > مراجعات رواية يسمعون حسيسها > مراجعة محمد الكايد

يسمعون حسيسها - أيمن العتوم
تحميل الكتاب

يسمعون حسيسها

تأليف (تأليف) 4.4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

أولاً وقبل كل شيء إن كنت من ضعاف القلوب أو سريعي البكاء والانهيار فلا أنصحك بقراءة الرواية إلا بعد أن تهيأ نفسك لما هو آت، فتُحصّن قلبك جيداً، وتنبّه على عينيك أن تتماسك قليلاً وتدّخر الدموع إلى أواخر الرواية، لأنك إذا هممتَ بالبكاء مبكراً فلن تجد دموعاً لتبكي متأخراً، وإذا أرهقت قلبك في السطور الأولى فلن يتحمل أن يكمل باقي السطور، لذلك فاستعد جيداً قبل أن تُمسك بغلاف الرواية وتقلبه لتُبحر في بحر من الآلام والمعاناة لن تقوى ليس فقط على تصوّره، لا بل لن تستطيع حتى إجبار عقلك بشتّى الطرق على تصوّره، لن يستوعب ذلك العقل البشري الموجود في رأسك كإنسان مقدار ما في تلك الأحداث من طغيان لا انساني، وجبروت شيطاني، يجعلك تشُّك أن تلك الأحداث حدثت على كوكب الأرض أو حتى في مجرّة درب التبّانة..!!

الرواية تُصنف من روايات أدب السجون، للكاتب الأردني الدكتور أيمن العتوم، وتحكي قصة وأحداث حقيقية حصلت للشخصية الرئيسية في الرواية وهو الطبيب السوري إياد أسعد، زمانها سبعة عشر عاماً من عام 1980 – 1997 م، ومكانها سجن تدمر في مدينة تدمر السورية، وإن كان سينتابك الشك عند قراءة سطور الرواية بأن تدمر السجن ليست تدمر سورية في كوكب الأرض، بل هي تدمر الجحيم في الأرض السابعة أو تحتها، حيث سُجن بطلنا الطبيب السوري إياد أسعد في سجن تدمر بعد توقيفه لمدة من الزمن في فرع الخطيب الأمني بتهمة الانتماء الى جماعة محظورة.

يسرد الطبيب إياد أسعد بقلم الدكتور أيمن العتوم ذكرياته المؤلمة في سجن تدمر، وإن كان وصف الألم لتلك الذكريات لا يوفيها حقها ابداً، ذلك أن مجرد الألم في تدمر السجن يُعتبر لمسة حانية مقارنةً بما يعانيه القابعون هناك، هناك في جحيم الظلمات تحت أيدي الظالمين، هناك حيث رائحة الموت تُستنشق مع الهواء كل لحظة، هناك حيث الخروج من عالمك الى عالم الظلم والقهر وسحق الكرامة، هناك حيث فقدان الأحبة كل يوم، هناك في جبروت اللاإنسانية بلا نهاية، هناك سُجناء آدميون وسجّانون لم يصل ماء أبينا آدم إليهم أبداً، هناك في تدمر يتمنى المرء أن يخرج من بين أيديهم حتى لو تلقفته أيدي يأجوج ومأجوج، يتمنى لو يُسجن في قبضة الأعور الدجال لا في قبضة ( أبو نذير) مدير السجن، لأن الاعور الدجال كافر ودجال أما أبو نذير فهو كافر ودجال ولص وظالم ومفترس، يتلذذ برائحة الدماء، يستمتع بسحق الكرامة واذلال البشر، يعشق رؤية الشهداء معلقين على اعواد المشانق، يروي صحراء تدمر بدمائهم حتى أظن الصحراء بكت دفائنها، هذا إن كان هناك ذرة من الشفقة على تلك الجثث، وإلا فكانت تُرمى دون دفن حتى شبعت بطون حيوانات الصحراء المفترسة بلحوم الأبرياء.

يروي الدكتور أيمن العتوم بلغته التي عهدناها بما فيها من بلاغة وصور أدبية رائعة ذكريات الطبيب اياد أسعد، تلك الذكريات بتفاصيلها الدقيقة، كيف ينامون، كيف يفكرون، كيف يأكلون، كيف يُعذبون وكيف يموتون، والأصعب من الموت هو انتظاره كل لحظة، فلا أنت حي ولا ميت، ولا أنت في الدنيا ولا في البرزخ، ضيق في المكان، وضيق في الصدر، وضيق في التفكير، سنين سنين والرؤوس منحنية باذلال حتى أصاب الرقاب تقوس، أما الأجساد فباتت لوحات من الفن التشكيلي تُرسم بالسياط كل يوم، حتى اذا ما أشفق الزمان على تلك الخطوط بالبراء عاجلها الرسامون المجرمون بغيرها، الرؤوس لا تتلقى سوى أحذية العساكر وضرب المواسير الحديدية، الوجوه لا تتلقى سوى اللكمات القاتلة، فهذا يعود للزنزانة يحمل عينه بيده، وذاك مهشم الفك، والآخر تتساقط اسنانه ويتمزق فمه، ناهيك عن حفلات التعذيب الجماعي من سحل وركل وضرب يودي الى موت بعض السجناء في كثير من الاحيان، ولكن من يأبه بالموت من الظالمين.!؟ هم يعشقون رؤية الناس تموت، فذاك هو زادهم وسر بقائهم، يا للعجب..!! كيف يكون موت الناس حياة لغيرهم؟؟

لفت انتباهي بالرواية أمور كثيرة، أبدأها بالمدة الزمنية التي قضاها الطبيب اياد اسعد في المعتقل، فهي ليست شهور ولا بضعة سنوات، وإن كان اليوم هناك يُعدّ بآلاف الاعوام بما فيه من عذاب، لكنها سبعة عشر عاماً كاملة، ولك أن تتخيل اخي القارىء كل تلك المدة بأيامها وكل يوم يحمل ما يحمل من الاضطهاد والعذاب والموت، والأمر الآخر هي تفاصيل حياة الطبيب اياد أسعد الشخصية، فهو رجل متعلم يعمل بالطب، متزوج كان يعيش حياة هانئة هادئة، له أب وأم وابنته لمياء بربيعها الأول، وزوجة كانت تحمل في احشائها طفله الثاني أحمد حين تم اعتقاله، أحمد الذي سُمي على اسم شقيق الطبيب اياد المهندس أحمد، الذي شاءت الاقدار أن يعتقل بعده في نفس السجن ويتم اعدامه أمام ناظري شقيقه، سبعة عشر عاماً لم يرى الطبيب أحد من أهله إلا شقيقه وهو يموت..!! وهنا نستشعر المعاناة والألم التي شعر بها الدكتور اياد فبرغم ألم فقدان الأخ وموته إلا أن مشهد أخذ جثة أخيه إلى الصحراء دون أن يعلم مصيره أيدفن أم يُرمى طعاماً لوحوش الصحراء كان الأكثر إيلاماً، اما لمياء الصغيرة، فتلك الحكاية الأشد وجعاً وقهراً في الرواية، فكل ما سبق – على فظاعته – كان في صخب الواقع وفوضى الحياة، لأن الدكتور إياد كان يعيش يومياته مسجوناً في أشد أنواع العذاب الجسدي والألم النفسي مع باقي النزلاء، يتألمون ويبكون ويصرخون، ويموتون، ثم تبرأ بعض الجراح وتندمل قبل أن يعاود السجّانون نبش لحمهم حتى العظم من جديد، ولكن لمياء جرح من نوع آخر، ألم ليس كسابق الآلام، هو طعنة بالروح وكي للوجدان كل يوم وكل لحظة، وأكثر ما يؤلم في ذلك الجرح أن الطبيب إياد كان يشعر به منفرداً، في سكون الليل ووحشة الظلام، طفلته الجميلة تركها بعمر العام، بملامحها تلك وابتسامتها تلك، وتفاصيلها التي تغيرت مع مرور الوقت، ذلك الفصل من الرواية أبدع به الدكتور أيمن العتوم إبداعاً كبيراً في وصف الحالة التي كان يمر بها الطبيب إياد أسعد، واقتبس هنا " يا ابنتي...ليس في الحياة أسوأ من غياب أبٍ حانٍ على ابنائه عنهم، غير أن الأفدح أن تكوني موجودةً في حياتي ولا أكون موجوداً في حياتك!! أن أعدّ كل ثانية تمرّ عليّ هنا من ملايين الثواني على أمل الخلاص.. الخلاص الذي سيجعلني أرى وجهك من جديد، ثم لا يكون لي في قلبك أيّ قبول.. وأنتهي أمام قدميكِ كورقة يابسة".

في الفصول الأخيرة من الرواية حتى وإن كان بها شيءٌ من الفرح بخروج الطبيب اياد أسعد من المعتقل بعد قرابة العقدين من الزمان، ويتجلى ذلك في التفاصيل الدقيقة التي أسردها الدكتور أيمن العتوم خصوصاً في رحلة الطبيب في أسواق تدمر ورؤيته للناس والمحال التجارية، إلا أن مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن والشفقة تنتاب القارىء في السطور الأخيرة من الرواية، نرى ذلك عندما وصل الطبيب الى الحي وعلم بوفاة والدته، ثم انتظاره على باب بيته وسماع صوت ابنته لأول مرة منذ سنوات طويلة، ثم اللقاء أخيراً بزوجته وابنته وسماع الآذان بصوت ابنه أحمد، كل تلك المشاعر التي أبدع الدكتور أيمن العتوم في وصفها تجعل القارىء يُنهي الرواية منهكاً وكأنه انتهى من حربٍ دامية.

اقتباسات من الرواية

"اختلط الليل بالنهار، تداخلا ربما، سبق أحدهما الآخر.. ماذا يعني الليل والنهار لسجين صارت كل خليةٍ فيه مرتهنة للدولة، وهو لا يملك حتى أن يسحب هواء الزنزانة الخانق إلى صدره..؟! كان عليه أن يسترق ذلك، لأنه إن ضُبط بالجرم المشهود فيسحرّمون عليه هذا النفس من أن يدخل إلى جوارحه ولو بالإكراه فيما بعد..!!"

" استيقظتُ فجراً، بدت السماء من شق الباب كأنها تتخلها عن سوادها لأزرقها الفاتح، كانت ليلة أمس قد قدمتني إلى الموت الذي رفضني؛ هل يكون الموت متواطئاً مع الجلادين؟!!"

" تختار الطيور أحياناً أعشاشها بغريزتها التي تقودها إلى الأمان النفسي والغذائي، وقد تغيرها بحثاً عن الحياة والحب والسلام، فتهاجر جهة الجنوب... أما نحن فقد كانت هجرتنا قسريةً جهة الشرق.. ولم يكن لنا من حق في الحياة ولا في الحب ولا في السلام.. وضعونا في أقفاص ذات جدران مصفحة وقادونا إلى حيث الموت والرعب والجنون والجحيم..!!"

" راقبته...مشى إلى المشنقة مقيد اليدين، واثقاً هازئاً... أعرفه تماماً، كان يمشي ساخراً من كل ما يحدث، غير عابىء بكل ما يجري من ترهيب وترعيب، غير مكترث لكل صيحات الجلادين التي تتوعد كل شيء تقع عينها عليه... خطواته كانت واسعة كأنما يركل في طريقه كل خوف أو ذعر أو استجداء"

" كم صار عمرك يا ابنتي؛ ست أو سبع سنين؟! نحن هنا لا نتقن عدّ الأعوام، هي تعدّنا، هي تأكلنا، هي تجترّنا بين أسنانها بهدوء، هي تحطم آمالنا، وهي تيبس ما إخضّر منها"

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق