دائرة التوابل > مراجعات رواية دائرة التوابل > مراجعة Raeda Niroukh

دائرة التوابل - صالحة عبيد
تحميل الكتاب

دائرة التوابل

تأليف (تأليف) 3.6
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
3

الذاكرة رائحة

رواية دائرة التوابل

ما أن تبدأ الدائرة حتى يتحلق طرفاها و يلتقيان لينغلقان، ولا تتشكل الدوائر إلا بوصول نقطة البدء إلى مستقر النهاية.

وما الحياة في جوهرها إلا دوائر تقاطعت حظوظها، وتشكلت حلقاتها.

ومن العصر العباسي يتحلق طرف الدائرة الأول من أحداث الرواية ، من قصة عبد الله بن المعتز، الخليفة الشاعر المقتول ، وفاطمة بنت ثابت التي شمت أثره، و نبشت قبره، إلى شما في دبي في عشرينيات القرن العشرين، إلى شريهان حفيدة شما ، التي تعيش في القرن الواحد والعشرين تنغلق الدائرة، دائرة عمادها الشمّ والرائحة.

لكن ما الذي يجعل للرائحة هذا الحضور المشهدي في الرواية؟

إن كانت التوابل هي ما تمنح الطعام مذاقاته المختلفة، فإن الرائحة هي ما تمنح كل الموجودات هويتها التي تتسلل إلى الآخرين من غير أن يقف أمامها مانع يحد من حرية انتشارها.

في العشرين من شهر سبتمر من سنة ٢٠٢٠، شعرت بإعياء و ضيق في التنفس، حاولت اقناع نفسي عبثا أن فيروس كورونا لم يعرف طريقه بعد إليّ.

ولكني فجأة، وجدت نفسي مثل " جان بيست جريجوري" بطل رواية ( العطر) ، بلا رائحة!

فقدت القدرة على تمييز الروائح، لم تعد تغريني رائحة القهوة، سائل بني مجرد من كل حمولات الذاكرة هي القهوة من غير رائحتها! ولا للخبز رائحة تشعل الحنين إلى خبز أمي، لا شيء ينبه حواسي لتستفز، حتى رائحة البيض التي كنت أحاول التخلص منها باستهلاك كميات من الكلور، وتشمم الأطباق للتأكد من تلاشيها، لم أعد قادرة على شمها، كنت أنظر إلى قوارير العطر وابتسم! على الأقل لم أعد أعاني عبء الاختيار بينها

تشابه يفقدك رغبة التجربة، أو شهية التذوق!

تشابه يذكرك بنعمة الاختلاف والتنوع.. ومع ذلك يصرّ البعض على الترويج لفكرة: النموذج المثالي الأوحد في الفكر، والبشر، والحياة!

طهوت الطعام، وأخذتنيي الحمى من عالمي ، ما أن صحوت حتى وجدت ما في القدر متفحماً ، لم أشم شيئاً، لم أعد قادرة على تمييز الروائح، ولا المذاقات.كل ما يحيط بي أمسى بلا هوية.

الرائحة رسول الآخر من حولك، لا يستأذنك ليخترق عالمك، يبثك الانطباع الأولي عمن يقابلك، يأخذ بيدك إلى عوالم بعيدة، ، يجول بك في أزقة الذاكرة، تخاف فجأة، أو يستبد بك الحنين أحياناً، تزداد ضربات قلبك، تشتعل نار الرغبة شبقاً في أحيان أخرى، للرائحة تلك القدرة السحرية لتنقلك من عالم الظاهر إلى عوالم الباطن، لتتجاوز كل القشور، ولتترك لنفسك استبطان ما تخفيه المظاهر.

يمكنك أن تغلق عينيك حتى تتجاهل من حولك، أن تصم أذنيك، أن تجلس فلا تمشي بك قدميك إلى من لا تحب، لك أن تمنع لسانك عن تذوق ما لا تشتهي، لكنك ستفشل حتماً في منع أنفك من أن يشم ما لا تريد.. ثوان معدودة قد تنجح في ذلك، لكن سرعان ما "تقتحم" الروائح عالمك، فالرائحة ابنة النفس الشرعية، مع كل شهيق، تنسل الرائحة إلى عالمك، وذكرياتك.

يقول دافيد لوبروطون في كتابه " انثربولوجيا الحواس/ العالم بمذاقات مختلفة". : " "أحد المبادئ الأنثربولوجية للرائحة هي أن تمنح نفسها ككاشف لطوية ما، وهي حقيقة جوهرية لا يخفيها شيء. …. الشم هو في الآن نفسه حاسة الاتصال والمسافة، فهو يغمس الفرد في وضعية شمية من غير أن يترك له الخيار بإغرائه أو استجذابه، غير أنه يثير أحيانا الإبعاد والرغبة في الابتعاد بسرعة من مكان يهين الأنف. الرائحة لا تترك أحدا في اللامبالاة. فهي إن انطبعت على جو ما، فإنها تساهم بشكل مؤلم في بعض الأماكن في الإحساس بالتلوث أو تدهور حال موقع ما. "

ومن هذا المنطلق كانت رواية " دائرة التوابل" تعالج فكرة الشمّ و الرائحة، كمادة لتشكل تصور الذات عن نفسها، و عن العالم من حولها.

أن تفلسف العالم من خلال الرائحة معناها أن تعيد رسم و ترتيب أهمية الحواس لديك، يذكر لوبرطون في كتابه السابق عدة دراسات تشير إلى تدني أهمية حاسة الشم في نظر من شملتهم الدراسة، واختاروا فقدانها فيما لو خيروا بينها و بين حاسة البصر مثلا أو السمع.

ويشير إلى بعض آراء الفلاسفة التي تقدم باقي الحواس على الشم.

لكن، رواية كالعطر ، لزوسكيند، أو كدائرة التوابل، تعيد الصدارة لحاسة الشم و الرائحة، لتجعلها باباً نلج من خلالها إلى خبايا هذا العالم، بعد أن تجاهله الكثيرون.

تشير صالحة عبيد في روايتها إلى تلك السطوة التي تمتلكها الرائحة في تشكيل علاقة أبطال قصصها مع ذواتهم و مع العالم من حولهم ، إذ تقول : " حساسيَّتها تجاه الروائح بدأت مبكِّرةً، تميِّزهم بالروائح، وتعرف الدالف من رائحته أيضاً، عالم كثيف يُشعِرها بالاختناق، تودُّ أحياناً لو تفقد حاسَّة الشمِّ، لتستطيع التعاطي مع العالم بشكل مجرَّد عن انطباعات الرائحة" .

إن كانت قبائل الدوغون الافريقية تجعل للروائح صوتاً يسمع، وللكلام رائحة تشم، فتصف ذلك بقولها : " يسمعون الروائح ، ويشمون الكلام"، والعرب تقول أشم من كلامك رائحة الغدر مثلاً فإن الحواس تتراسل و يحلّ بعضها مكان بعض في رواية " دائرة التوابل" ، ليمسي الشم عيناً نبصر بها،. فتقول رأيت الرائحة، أن ترى الآخر من خلال رائحته، معنى ذلك أن تعيد رسمه و تصوره بناء على ما تثيره تلك الرائحة فيك، متجاوزاً الملامح الشكلية له.

تشير صالحة عبيد لذلك بقولها : " تستطيع أن تثق بأيِّ شيء سوى ما تجلبه الرائحة من مشاعر، إنها تحسُّ من خلالها، وقد تتجلَّى الأمور أحياناً لتشعر بأنها ترى مِن خلالها أيضاً، "الكركم" يُورثها شعور الإعياء، وتراه سيِّدةً عجوز…"

فكيف يكون الحال، إن كان أحدهم يمتلك " أنفاً" خارقاً، يفترق عن غيره من " الأنوف" في قدراته الشمية؟

كيف تمسي علاقاته رهناً لما تجود به قدرات الشمية؟ ليحب، ويكره، وينأى و يقترب من حدود هذا العالم ليقترب من العالم الآخر ، من الموت، ليساءله عن ماهيته؟

للبطولة في هذه الرواية نكهة انثوية، في انتصار للمرأة التي حجبتها عن سمات البطل الأسطوري تراتبية العلاقات في مجتمعاتنا، إذ يحتل الأبطال الأسطوريون قمة هرم البطولة، في امتلاكهم قدرات فوق بشرية.

لكننا في هذه الرواية نجد أنفسنا أمام بطلات ثلاث، عشن في ثلاثة عصور وأزمنة مختلفة، هن : فاطمة بنت ثابت، من العصر العباسي، والتي كشفت بحاسة شمها الخارقة قبر الخليفة العباسي عبد الله بن المعتز ،وآثرت أن تثور على التصنيف الطبقي ، لتتزوج وهي الحرة من عبد ، هوى له قلبها، واعتقه سيده لاحقا .وشما الفتاة ذات الأنف الأفطس، الذي يفترق عن الأنوف المستدقة الرفيعة لباقي رجال عائلتها ، والتي عايشت موت ذي الرأسين الكبيرين، إثر إصابته بالجدري في الثلاثينيات من القرن العشرين، حين عم الوباء في دبي، كانت تشم رائحة الموت. و شريهان التي يشبه أنفها أنف جدتها شما ( فالعرج دساس) ،هالها اختلاف شكل أنفها عن أنف الفنانة المصرية شريهان، التي اسمتها أمها على اسمها، فقد كانت تلك الفتاة مسكونة بالبحث والقراءة عن حياة شربهان، علها تجد نقطة التقاء بين حياتيهما.

أمضت شريهان جلّ أيام طفولتها تلعب بجوار سور المقبرة، وشغلها سؤال الموت و عوالمه الخفية، حتى دفعها لدراسة الطب الشرعي، وليموت زواجها من ناصر ، الذي كانت تشاركه اللعب قرب سور المقبرة، لإنه يفتقر إلى الرائحة، فالرائحة هي البصمة الذاتية للمرء، التي تمنحه تفرده، وتجعل منه آخراً مختلفا بحضور الأنا.

للموت رائحة نفاذة في هذه الرواية، تتقاطع مع الأحياء، لتصل من خلال الموت إلى فهم كنه الحياة.

فما رائحة المرضى العطنة التي تشبه رائحة الأسماك النافقة ، إلا تذكير بأصلهم الأول، فلربما كانوا سمكاً .

تقول عبيد : ❞ فلا شيء يضاهي رائحة المرض الزاكمة التي لفَّت الحَيَّ من أقصاه إلى أقصاه، وانتقلت كسلسلة مرعبة من حَيٍّ إلى آخر، في أثناء البيوت المعروشة. كانت رائحة تشبه رائحة الأسماك النافقة بأعداد هائلة، هذا ما سمعت "شَمَّا" الأهالي يتناقلونه عن تجسُّد الرائحة، رائحة هي تعرف موضعها من الذاكرة، وتعيد إلى ذهنها تلك الفكرة عن أنهم كانوا حتماً أسماكاً في مرحلة ما، وأن أجسادهم إنما هي تعود فقط إلى أصلها بعد موتهم، أو وهم في الطريق نحو الموت. ❝

اللحظة التي تفقد فيها شما الرائحة هي لحظة معاناة المرضى أقصى درجات الألم و تفسخ أجسادهم، بينما فقدت فاطمة بنت ثابت حاسة شمها حين ابتعدت عن حبيبها نجوان العبد الأسود ❞ راحت تظنُّ أنها بفقدانها للحُبِّ تفقد الرائحة، وأن نجوان لم يكن مجرَّد شخص بقَدْر ما كان محيطاً بتفاصيلها كلّها والشؤون منذ أن أدرك كلٌّ منهما فارق الجسد والمعنى بين ذَكَرٍ وأُنثى، واللذَّة في تلك التفاصيل المختلفة بينهما، رائحته التي التصقت بجسدها تماماً كما التصقت رائحتها بجسده، كأنهما تركا دمغةً أثيرية أحدهما على الآخر، حتَّى القصاصات الآتية والذاهبة بينهما، كانت مُشبَعة برائحته .. ❝

وكانت مكافأتها على تنفيذ الرؤيا التي ألهمتها نبش قبر عبد الله بن المعتز، وإلقاء جثته في نهر دجلة، أن منحت قدرات شمية غير اعتيادية.

و للحلم حضور مشهدي في هذه الرواية، فشريهان تحلم برأس الخليفة الشاعر عبدالله بن المعتز، قائلا لها : " ❞ السرُّ في الأنف الأفطس، فإن غاب استقامت الحياة. ❝ ، تحمل هذه العبارة دلالات عدة، لكن شريهان آثرت تطبيقها حرفيا على رضيعتها ذات الأنف الأفطس!

و شما التي حلمت بالرؤوس المعطونة المتسلخة، حتى تقاطعت رؤياها مع الواقع، فعمدت إلى ترميم الرؤوس و نحتها من الطين.

بطلات الرواية مأزومات بقدراتهن الشمية الخارقة، وهن مدركات أن الانفكاك من سطوة الذاكرة لا يستقيم مع أنوفهن الشمية الخارقة، فهن محكوم عليهن أن يتذكرن أبداً ما كان، وكيف لإنسان أن يحيا و قد حرم نعمة النسيان!

#رائدة_نيروخ

#دائرة_التوابل

#صالحة_عبيد

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق